








النصيحة الأخيرة(1)
أضفى جوّ الليل البهيم على هذه الغابة الكثيفة الشجراء، جوّاً أسود فاحماً، يوحي لما فيها من نبات وحيوان، بالوحشة والروعة، ويغيّر فيها ما كانت تعجّ به من أوجه نشاط الحياة أثناء النهار، يغيّره إلى نوعٍ من الصمت العميق والسكون الموحش الدفين.
فلم يعد يسمع خلال هذه الغابة المترامية الأطراف إلَّا ما تحدثه يد الأشجار من حفيفٍ خفيف، يلامس أوتار الأُذن برقّةٍ وفتور، عندما تلاعبها أنامل النسيم الهادئة، وإلَّا ما يُسمع من أجنحة طيور الليل، وهي تغادر مكامنها إلى حيث مطالب الرزق.
وإلَّا وقع أقدام وحشٍ هائم، لم يتطرّق النوم إلى عينيه من شدّة الجوع، فمشى خلال الليل البهيم باحثاً عمّا يسدّ به رمقه من ضعفاء الحيوان.
في هذا الليل وتحت أُفق هذا الجوّ الساكن، كانت تضطجع فوق العشب الوثير، وتحت مجموعةٍ ملتفّةٍ رائعةٍ من الأشجار الباسقة، لبوةٌ مريضة، تجمع حولها أشبالها، وتئنّ بين الحين والآخر من وطأة الألم، وتستوحي من ذلك الجوّ الهادئ الرهيب مزيداً من الوحشة والألم والكسل.
وكانت أوصال الألم تستشري في إهابها بنشاطٍ صامت، وتمشي بأعصابها بهمّةٍ هادئة، مستمدّةً من ذلك الليل البهيم حيويّةً متزايدة، ونشاطاً منقطع النظير.
آلام اللبوة تتزايد شيئاً فشيئاً، ولواعجها تثقل عليها باستمرار، وآهاتها وأنينها يزداد تتابعاً، ويتأكّد عمقاً. فمرّة ينطلق منها الزفير انطلاق المتفجّر الثائر، وأحياناً يخرج من بين أشداقها خروج اليائس الصامت. وهي بين الحالتين مستسلمةٌ إلى العشب لا تعرف ملجأً ولا تعلم دواء.
وإذ رأى أشبالها ما في أُمّهم [من] ألمٍ ممضّ، وما تعانيه من وحشةٍ وحسرة، وما تكابده من مرضٍ أليم، توجّهوا إليها بخشوعٍ وأدب، راجين منها أن تسمح لهم بالبحث لها عن طبيبٍ في أرجاء هذه الغابة الكبيرة؛ لعلّه يستطيع تشخيص دائها وتعيين دوائها، ويكون على يديه شفاؤها العاجل السريع، وإن استلزم الحال إيقاظه من نومه وإزعاجه في أحلامه.
وحين رأت الأُمّ الرؤوم مبلغ حنوّ أشبالها ولوعتهم عليها، شكرت لهم عواطفهم، وأثنت على حسن كرمهم، وأذنت لهم بالذهاب.
لم يغب الأشبال إلَّا برهةً من الزمن، جاؤوا بعدها ومعهم أرنبٌ عجوز، ينطّ بين العشب ببطءٍ وتثاقل، قد خالط النوم عينيه، وأزعج التعب رجليه.
واقتربوا منها، وانحنى الأرنب بأدبٍ واحترام، مسلّماً على اللبوة الأُمّ، فرحّبت به، وشكرت له سعيه، وأذنت له بالجلوس.
وإذ ضمّهم ذلك المجلس، ابتدر أكبر أبنائها بالكلام، محاولاً تعريف هذا الضيف القادم لأُمّه، فذكر أنَّه أرنبٌ صالح، معروفٌ بالتقوى والورع، وبطهارة النفس وصفاء الضمير، إلى جانب دقّةٍ في النظر، وسعةٍ في التفكير، واطّلاعٍ واسع على علوم الطبّ.
وطلب هذا الشبل من أُمّه أن تسمح للطبيب أن يشخّص ما بها من داء، ويعيّن ما تشكوه من آلام؛ لعلّه أن يصف لها الدواء الناجع الصحيح.
وبعد أن جسّ الأرنب نبضها ونظر إلى لسانها، واستمع إلى دقّات قلبها، انسحب بهدوء، وجلس مرةً أُخرى في مكانه الأوّل. ثُمَّ تأوّه آهةً صغيرةً تحمل ما يريد أن يبديه تجاه هذه اللبوة المريضة من شفقةٍ ورحمة.
ثُمَّ قال لها: إنَّك يا سيّدتي في صحّةٍ وعافيةٍ ولا داء فيك، ولا يحتوي جسمك على تشنّج أو التهاب أو اضطراب، وإنَّما الذي تحسّينه وتشكين منه، إن سمحت لي بذكره، إنَّما هو خمولٌ أصابك، وكسلٌ ألمَّ بكِ منذ أيّام، منعكِ عن ممارسة نشاطك الاعتيادي في الحياة، وأدّى بك إلى عدم تناول المقدار الطبيعي لك من الطعام والشراب، فأنتجَ ما تجدينه من ألمٍ ووحشة.
وإنّي سوف لن أصف لك دواءً تستعملينه، ولا عقّاراً تصنعينه، وإنَّما الذي أعتقده أنَّ أنجع الأدوية بالنسبة إليك هو أن تقومي بنفسك، شيئاً فشيئاً بفعاليات الحياة، وتباشري عملك الطبيعي فيها، وتقومي بما تتطلّبه منك من واجبات، وما لك عندها من حقوق.
واتّبعي أحسن الطرق التي توصلك إلى حقوقك والقيام بواجباتك؛ لكي تستطيعي أن تتناولي من ثمار جهدك التي تغرسينها بيدك، فاكهةً شهيّةً ناضجة، لا يشوبها ألم، ولا تختلط بها حسرةٌ ووحشة.
وإنّي أعدك، أنَّك بمجرّد أن تذوقي الثمار الشهيّة التي تقطفينها من بساتين عملك، فإنَّ داءك سوف يزول، وستبرئين تماماً من هذه الشكاة.
ما إن سمعت اللبوة من الأرنب الطبيب هذا الكلام، حتّى تغيّر وجهها عليه، ولاعبت ملامحها مسحةٌ من العبوس والاشمئزاز.
ثُمَّ قالت له: دع عنك فلسفتك هذه جانباً، كيف تنصحني بالحركة وممارسة النشاط، وأنت على ما تراني عليه من المرض والذبول؟
فأجابها الأرنب: إنَّني قد أدّيتُ لكِ النصيحة، وقمت بالواجب أمام ربّي وضميري، ولك فيما قلتُ مِن الشفاء ما تطلبين لو كنت تعلمين.
فقالت له بحدّة وعبوس: اذهب فقد خالط الشيب عقلك أيَّها الأرنب العجوز. وحاولت أن تضربه بمخالبها ولكنّها لم تقوَ على القيام، وفرّ الأرنب من بين يديها هارباً.
بقيت اللبوة عندئذٍ تئنّ تحت ضغط الألم الثقيل وتتقلّب على فراش المرض الأليم في ذلك الليل الموحش الرهيب، تقتات من آلامها مرّ الطعام وتتجرّع من وحشتها أكؤس العلقم والصاب، وازداد وجد الأشبال على أُمّهم الطريحة، وتضاعفت لوعتهم على ما تعاني من ألمٍ وحسرة. واستأذنوها بعد برهةٍ صغيرةٍ للتجوّل في هذه الغابة المظلمة مرّةً أُخرى لعلّهم أن يجدوا طبيباً آخر أبعد نظراً وأعمق فكراً من ذلك الأرنب العجوز، لعلّه أن يوفّق إلى الإسراع بها إلى أملها الكبير في الشفاء العاجل الجميل.
وجاس الأشبال مرّةً أُخرى خلال الغابة الشجراء، باحثين بما أُوتوا من خبرةٍ وجهد عن طبيبٍ جديد.
ولم يمرّ على اللبوة زمانٌ طويل، إلَّا ورأت أشبالها عائدين، وبصحبتهم ثعلبٌ شابٌّ قويّ، تقفز من عينيه علائم المكر والدهاء، وتنطق حركاته بالحيويّة والنشاط، وتدلّ ملامحه على ما في نفسه من نزوات الشباب.
واقتربوا منها، وأقعى الثعلب عن قرب، وأبدى تحيّةً مقتضبةً باحترامٍ للّبوة المريضة، ثُمَّ استأذنها بمباشرة أعماله كطبيب، فأذنت له.
أطال الثعلب الفحص، وقلَّب المريضة ظهراً لبطن، وتأكّد في فحصه عدّة مرّات، وكان بين الفينة والفينة، يفتر عن الفحص؛ ليفكّر ويتدبّر.
وعندما انتهى، رفع رأسه بدهاء ومكر، وهزّ رأسه هزّةً خفيفة، توحي للّبوة أنَّه مشفقٌ عليها رحيمٌ بها، ثُمَّ ابتدرها بالكلام قائلاً:
إنَّني آسف، إذ أخبرك أنَّ بدنك محتوٍ على عدد من الأمراض الجسيمة، والعلل الخطيرة، من اضطرابٍ في القلب وتضخّمٍ في الكبد وقرحةٍ في المعدة، وهذه الأمراض تحتاج إلى طول في العلاج، وكثرةٍ في الدواء، وإلى إنفاق زمانٍ طويلٍ في النوم المريح الخالي من ممارسة أيّ نشاط.
وإنَّه ينبغي لكِ أن لا تفكّري في شؤون الحياة، وأن لا تحملي بين جنبيك همومها وآلامها وتتعبي على تحصيل لقمة العيش فيها، وإنَّما دعي ذلك إلى أشبالك الكرام، الساهرين على راحتك وحسن مداراتك.
وإنَّني واصفٌ لك بعض الأدوية المساعدة لكِ في شفائك، والموصلة إليكِ صحّتكِ، بأسرع وقتٍ وأسهل طريق، وإنَّي سوف أتعهّدك بين الفينة والفينة بالزيارة والفحص والإرشاد.
وبعد أن كتب لها قائمة الأدوية في ورقة، ودّعها بحفاوةٍ وإكرام، وذهب إلى حال سبيله.
ومن ثَمَّ تصدّى الأشبال إلى تحصيل الدواء وجمعه من أطراف الغابة، واستخلاصه من النباتات المتعدّدة والمعادن المختلفة. وأنفقوا في ذلك وقتاً طويلاً، حتّى كادت الشمس أن ترسل أشعّتها الدافئة بعد ذلك الليل البهيم، على أشجار الغابة الباسقة؛ لتكسوها روعةً وجمالاً، وتجعلها سرّاً وفتنةً للناظرين.
عاد الأشبال بعد ذلك العناء الطويل إلى أُمّهم الطريحة، ليقدّموا لها الدواء الذي أحضروه، فوجدوا أنَّ حالها قد ساء، وصحّتها قد تنازلت، وقد استشرى بها المرض أكثر فأكثر، فسلّموا عليها بأدبٍ واحترام، ونظروا إليها بحسرةٍ وألم، وأسرعوا بإعطائها شيئاً من الدواء الذي حملوه.
وتناولت اللبوة الدواء، ثُمَّ التفتت إليهم، وحاولت جاهدة أن تغتصب من بين آهاتها المتواصلة، وقتاً كافياً لأن تقول: آه، لو كنت قد أطعت الأرنب العجوز، ومارست حقّي في الحياة، شيئاً فشيئاً منذ المساء السابق، إذن لم أكن لأصل إلى هذا الموقف الأليم.
ولو كنت قد سلكت الطريقة الفضلى في الحياة، ومارست حقوقي وواجباتي باتّزان لما وصلت إلى هذه النتيجة الرهيبة، ولانقشعت عنّي حجب الوحشة، وانزاح عنّي الألم إلى غير رجعة.
فإنَّ النشاط الدائب البنّاء، في سبيل تطبيق منهج الحياة القويم، والوصول إلى ثماره الناضجة الشهيّة، بكدّ اليمين وعرق الجبين، خيرٌ على كلّ حال، من الاستسلام إلى الكسل، والإعراض عمّا تعجّ به الحياة من حقوقٍ وواجبات، والاكتفاء بشرب الدواء بوحشةٍ وحسرة، على فراش المرض الرهيب.
وليس هذا الدواء الذي تجرّعته الآن، بمشورة ذلك الثعلب الماكر، إلَّا الطريق المحتوم إلى الهلاك، وإلى مغادرة الحياة، فقد أخطأ تشخيص الداء ووصف الدواء، وما أظنني إلَّا مفارقتكم بعد قليل.
ونصيحتي الأخيرة إليكم: أنَّكم إذا مرضتم يا أشبالي الأعزّاء في يوم من الأيَّام، فارجعوا إلى ذلك الأرنب العجوز، أو إلى مَن يسير على شاكلته في العمل والتفكير، وحذار أن يخطر في أذهانكم الرجوع إلى مثل ذلك الثعلب الماكر الشرّير.
ــــــــــــــــــــــ
(1) [تاريخ كتابة البحث] الخميس: 23/10/1384 = 24/2/1965 (منه (قدس)).
