








أيها العقل(1)
أيُّها العقل، أرفع بكلتا يديَّ إلى مقامك السامي العظيم، سلامي الوافر العاطر مشفوعاً بالتبجيل والاحترام.
بك - أيُّها العقل- أحيى وأعيش، ومن مائدتك أتناول، وعلى بابك ألقي رحلي، واعتماداً على فطنتك ألقي بنفسي في خضمّ الحياة، أضرب الأمواج، أسبح مع الأسماك، وأسعى إلى ما تضعه أمامي جميلاً برّاقاً، وأبتعد عمّا تريني إيّاه أسود قبيحاً، بواسطتك متحتُ(2) من بئر المعرفة، ودخلتُ في بطون الكتب، وأكلت من ثمار العلم، ولمحتُ ضوء الحقيقة الوهّاج.
بك اقتبستُ من مختلف العلوم والفنون، وبواسطتك تفتّحتْ نفسي عن مختلف الأزهار والثمار، وبفضل نورك حدّدتُ موقفي في زحمة الآراء، وضبطتُ سلوكي في معترك الحياة. ثُمَّ من أجلك - أيُّها العقل- يدخلني الناس في زمرتهم ويخاطبونني بكلامهم، ويحبونني بالحقوق، ويفرضون عليّ الواجبات، وبك يحترمني محترمهم، ويحتقرني محتقرهم، ويشاطرني الحياة أفرادٌ منهم.
إنَّني لستُ شخصاً سواك، إنَّني إن أحببتُ حياتي فإيّاك أحبّ، وإن استنشقت هواء الحياة العليل، فمن أجلك أستنشقُ، وإن أكلتُ من طيّبات الفواكه ولفظت حنظلها، فمن أجلك آكل وألفظ، وإن ركبت سفن المعارف وجُبتُ آفاق العلوم، فبك ومن أجل تثقيفك وتوسيع آفاقك، وإن ناضلت في سبيل العيش وغنّيت حول ضوء السراج الضئيل، فمن أجلك أُناضل، ولك أغنّي.
أنت - أيُّها العقل- كنزي الثمين الذي لا يمكن أن يسطو عليه اللصوص أو يعتدي عليه المعتدون، أنت الذي لا تنقصه النفقة ولا يتعبه الاستعمال، ولا يعلوه الصدأ عند الإهمال. صحّتك صحتي، وسقمك سقمي، والمعتدي عليك معتدٍ على حياتي، ومحترمك محترمٌ لي، ومكرمٌ لنفسي وعواطفي.
فلولاك لما شممتُ عبير الحياة، ولا ذقتُ طعم الثمار، ولا رأيتُ نور الحقّ، ولا تجنّبتُ مزالق الأوحال، ولـما دارت بي الشمس في فلكها ولا ابتسم لي القمر، ولا عبستْ بوجهي الشياطين. ولولا وجودك لابتلعتني الأمواج وسفتْ على أطلالي الرياح، وانكسر في يدي المحراث، ولداس الناس على جسدي بأقدامهم وابتسامةُ النصر مرتسمةٌ على شفاهم، ولأصبحتُ لقمةً صغيرةً سائغةً لضواري السباع، تأكلني ثُمَّ تلعق شفتيها بنهمٍ ولذّةٍ وسرور.
بك - أيُّها العقل- أسير في طريق الخير والسعادة نحو شاطئ الأبديّة والخلود، وبك أقطع شراك الشياطين وأقف أمام جماح العواطف، وأخنق صرير العواصف. لولاك لبنى الجهل في نفسي بيتاً واسعاً وأثّثه بالسوء والشرّ، وزيّنه بالخطيئة والذنوب، فأنت صاحب الزمام، تُحسِنُ التصرّف وتجيد التدبير، بعزمٍ وتصميمٍ أكيد.
فمن أجل هذا أهديك إكباري وإعجابي واحترامي وتقديري، فأنا أُكبر مقامك الرفيع الذي أرى به الحقّ حقّاً فأتّبعه، وأرى الباطل باطلاً فأجتنبه، فأتّجه به نحو الله تعالى، وأسير في طريق الحقّ، وأرى به نور الحقيقة. وإنّي لمعجب بقولك السديد ومنطقك السليم ونظرك الثاقب وسيفك الصارم، وإني لأحترم ما تحتويه من جواهر العلوم ولآلئ المعارف، وما تستطيعه من إشراق النور وحرث الأرض وبذر الحبّ وإثمار الفواكه، وما تتحكّم فيه من التذكّر والإدراك والتفكير، وتدبير السلوك وتنظيم الإحساس. وإنّي لأقدّر لك فضلك في نصحي وهدايتي وإضاءة ظلمات الفضاء أمامي، وتوجيهي نحو الخير والسلوك الصحيح، وتجنيبي مزالق الأهواء وعثرات العواطف.
ولكن يعزّ عليّ أن تكون المرآة التي أرى بها وجوه الشياطين، كما أرى بها وجه القمر، أو أن أسمع بواسطتك النواح والبكاء، كما أسمع تغريد البلابل وزغردة الطيور، أو أن أذوق بواسطتك مرارة الشقاء والألم، كما أذوق لذيذ الطعوم. يعزّ عليّ أن تكون مصدر بلائي وشقائي، كما أنَّك مصدر سعادتي وسروري.
ولكن الذي يهوّن وخز الأشواك، ويخفّف ألم السياط، أنَّك أنت الذي تتحمّلها، وبك أدرك مرارتها، ثُمَّ بك أستطيع حلّ معضلها، والخلاص من شراكها. فأنت الذي تعرف سبيل الخروج وتبسطه أمامي واضحاً واسعاً، وتجعل هذه الآلام حافزاً على الإبداع والتجديد، وتجنّب ما سواها من أنواع الشقاء، وأنت الذي تقتبس من لظى سياطها موعظةً وعبرةً تنفعك في تجنّب مثيلاتها أو تخفيف وطأتها في مستقبل الأيّام.
إلى اللقاء - أيُّها العقل- فإنّني أحاول أن أختم رسالتي هذه عارفاً لفضلك، مقرّاً بجميلك. ولكن الذي يبدو أنَّني لا أستطيع فراقك ولا أتمكّنه؛ لأنَّ أزهارك قد نبتت على أرضي، ورسخت جذورها في أعماقي، وستبقى متحدّيةً موج الرياح وطوارق الأيّام، ولا يمكنني أن أُفارقك ولا يمكنك أن تفارقني ما دمتَ صحيحاً معافى تفيض النور والخير، ولن تستطيع وداعي في حياتي ولا عند موتي؛ لأنَّني سأفقد عند الممات جسدي ولن أفقد عقلي. إذن، فسأودعك على هذه السطور محتفظاً بك بين جنبيّ، معتزّاً بك، مفاخراً بوجودك.
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) [كتب بتاريخ] الجمعة: 29/10/1381= 6/4/1962 (منه (قدس)).
(2) في المصباح المنير: المتح: الاستقاء، وهو مصدر (متحت) الدلو، من باب نفعٍ إذا استخرجتها، والفاعل (ماتح) و(متوح). المصباح المنير (للفيومي) 2: 562، مادّة (المتح)، وأُنظر أيضاً: لسان العرب 2: 270، فصل الدال المهملة.
