








أين الأدب الإسلامي الملتزم؟(1)
كن أديباً كما يشاء الأدب ومسلماً كما يشاء الإسلام ثُمَّ اكتب ما شئت.
في لحظةٍ مِن أعقد لحظات المسلمين وأولاها بالعناية والاهتمام، وفي ساعةٍ افتقر فيها المسلمون إلى مَن يعرّفهم الإسلام ويرشدهم إلى هواه، سمعنا صوت الأخ الفاضل المجاهد السيّد محمّد بحر العلوم مرتفعاً يطالب الأُدباء المسلمين بأدبٍ إسلاميٍّ ملتزم، يتعهّدون فيه بتجنيد قواهم الأدبيّة وأقلامهم الحرّة التي تنبض بالحياة، في سبيل نشر الأفكار الإسلاميّة، وتفجير طاقاته بأُسلوبٍ رائعٍ جميل، وببسط فنّيٍّ سليم.
كانت هذه صيحة حقٍّ انطلقت من فم مخلصٍ قصد خدمة الإسلام وإبداء المشورة للمفكّرين المسلمين؛ لأجل أن يسعوا متكاتفين في سبيل إعلاء كلمة الإسلام وإطلاع الجماهير المسلمة بحقيقة دينهم، وما فيه من حقائق وطاقات. فكانت فكرةً رائعة، ومشروعاً فعّالاً للسير في هذا السبيل؛ لأنَّه أقصر الطرق وأسهلها لنيل هذه الغاية النبيلة.
ولكنّ الزمان تصرّم وطال سيره، وانقضى على تلك الدعوة أكثر من العام ونصف العام، ولم نرَ إلَّا الشيء القليل النادر ممّا دعا إليه حفظه الله تعالى؛ ممّا دفعني إلى أن أُجدّد النداء وأكرّر على مسامع المسلمين تلك الكلمة، كلمة الحقّ.
إنَّ كلَّ مفكّرٍ إسلاميٍّ يعلم أنَّ الإسلام دينٌ عامٌّ شامل، خَاطَبَ البشريّة في كلِّ مكانٍ وزمان، فقد خاطب العامّة كما خاطب الخاصّة، وخاطب الجهلاء كما خاطب المثقّفين، وخاطب الفقراء كما خاطب الأغنياء، فليس من الصحيح إذن أن يقتصر المفكّر الإسلاميّ بالدعوة إلى دين الله على نفسه وخاصّته، بل إنَّ الواجب الإسلاميّ المقدّس يحتّم عليه أن ينشر الدعوة في كلِّ مكانٍ يوجد فيه مكلّفون باتّباع الأوامر الإسلاميّة.
إذن، فلابدَّ أن يصل صوت المفكّر الإسلامي إلى الجماهير وأن يهزّ نفوسهم، وأن يحملهم على العمل في سبيل دين الله القويم. يجب أن يفهم كلّ فردٍ منهم، ما في الإسلام من طاقاتٍ عظمى، وقوانين دقيقة، لابدَّ أن يفهم ذلك: التاجر في محلِّ تجارته، والتلميذ في مدرسته، والمعلِّم أثناء إلقاء محاضرته، والطبيب في عيادته، والموظّف في دائرته، ويجب أن يفهم ذلك: الفلّاح في حقله، والعامل في معمله، والنجّار والحدّاد والبنّاء وما إليهم، كلٌّ حسب حظّه من الثقافة والتفكير.
لابدَّ أن يفهم كلّ هؤلاء وغير هؤلاء، حقيقة دين الله الذي أنزله لعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم؛ ليستطيع المفكّر الإسلامي أن يدّعي لنفسه حينئذٍ أنَّه قد أدّى بعض ما تتطلّبه رسالته الإسلامية التي حملها على عاتقه بوصفه مفكّراً إسلاميّاً.
لابدَّ أن يفهم كلّ فردٍ من هؤلاء أنَّ الإسلام قد ساهم من قريبٍ أو من بعيدٍ مساهمةً فعليّةً وفعّالةً ببناء العمل الذي يحترفه، وأنَّه قد صعد بعمله هذا إلى أقصى مرتبةٍ يمكن أن يبلغها من الكمال، وأنَّ للإسلام رأياً صائباً وقانوناً عادلاً في كلِّ عملٍ يقوم به الإنسان، وأيّ قولٍ يقوله مهما كان تافهاً أو مهمّاً في أيّ مرفق من مرافق الحياة.
وهذا الفهم ليس هو الغاية القصوى في نفسه، بل هو دعوةٌ إلى العمل، ونداءٌ إلى تطبيق أوامر الإسلام.
إذن، فلابدَّ أن تحدث في نفس كلِّ فردٍ الحماسةُ الدينيّةُ اللازمةُ التي تدفعه إلى امتثال هذه التعاليم وتطبيق النظام الإسلاميّ في مجريات حياته وجزئيّات أعماله، فبدون هذه الحماسة لا يمكن أن ينبض لأحدٍ عرقٌ أو يخفق قلب، وهذه الحماسة لا يمكن أن تحدث أو تتأجّج إلَّا إذا شعر كلّ شخصٍ منهم أنَّ الإسلام حبيبٌ إلى نفسه، وجميلٌ في نظره، وأنَّه يوافق مصلحته ويطابق هوى نفسه، وإلَّا فإنَّ الشخص منهم ليس مستعدّاً إذا جدّ الجدّ وحانت ساعة العمل، والجماهير المسلمة على ما هي عليه في الحال الحاضر من الانحطاط الدينيّ والثقافيّ، ومن الأثرة وحبّ الذات، ليس مستعدّاً أن يضحّي بأيّ شيءٍ مهما كان تافهاً، في سبيل أمانٍ برّاقةٍ تشعُّ بأيدي جماعةٍ من المسلمين.
كيف إذن، يمكننا أن نصل إلى هذه الغاية النبيلة؟
إنَّ الإسلام بحرٌ لا يمكن أن ينضب معينه، لا أن يناله الجفاف من كثرة السقاية والشرب، وهو كفيلٌ بمصلحة هذه الجماهير بجميع أقوالها وأفعالها، وكفيلٌ بإصلاح نفوسهم وإسعاد قلوبهم لو تفهّموه وعقلوه. غاية الأمر أنَّ هذه الطاقات العالية والأفكار النيّرة مختزنةٌ في بطون الكتب الضخمة ضمن عباراتٍ مغلقة، وأوجه رأيٍ غامضة، جادت بها أفكار المختصّين بالبحث حول الفقه الإسلامي واستنباط شرائعه وأحكامه، وليس عليهم في ذلك من غضاضة؛ لأنَّه لابدَّ لكلِّ علمٍ من اصطلاحاتٍ وقواعد يسلك بها إلى النجاح طريقاً لاحباً.
ولكنّ هذا - بالطبع- ممّا لا يصلح للنشر أمام العامّة، ولا مما يتقبّله أذهان الجمهور، إذن فنحن - بكلِّ بساطة- لسنا بحاجةٍ إلَّا إلى إبراز هذه الكنوز إلى النور، وعرضها أمام الرأي العامّ بشكلٍ زاهٍ قشيب، يلفت الأنظار ويلذّ النفوس، بشكلٍ يوافق جميع المستويات ويماشي مختلف العقليّات، ليستطيع الإسلام أن يسير جنباً إلى جنبٍ، مع الآراء العالميّة الكبرى، وأن يفوقها بجدارته وحصافة رأيه في يومٍ من الأيّام.
وهنا تبرز أمامنا جليّةً واضحة، فائدةُ الأدب الإسلاميّ الملتزم، ومدى خدمته الفعّالة في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولابدّ لنا في هذا المقام أن نقف لحظاتٍ لنتميّز معالم هذا الأدب الذي ندعو إليه.
بين يدينا هذه الجماهير، نراها لا تأنس إلَّا بهذا الأُسلوب السهل المبتذل، الذي تنشره المجلّات والصحف والكتب الصغيرة المبسّطة، وتنطق به الإذاعات ومحطّات التلفزة، مشفوعةً بالصور الخلّابة في أغلب الأحيان. ففي هذه الأساليب ما يريحها أثناء الاسترخاء، بعد الكدح من أجل الحياة، ويسلّيها بعد التفكير المضني، ويقتل وقتها بسهولةٍ ويسر. أمّا ما يبعث على التأمّل والتفكير، فهو يفقد هذه المميّزات ويدعو إلى التعب وبذل كميّةٍ من الطاقة الذهنيّة، إن كان في هذه الجماهير أفرادٌ تحاول أن تقرأه وأن تفهمه.
وقد كان هذا الأُسلوب السهل المبسّط، هو المسلك الرئيسيّ في الدعاية لمختلف المبادئ ووجهات النظر المادّيّة والإلحادية والاستعماريّة التي إنَّما تقصد الشرّ والدمار. فإذا كانت الجماهير بصفاء نفسها وخلوّ ضميرها، ترى أكاسرة الوحوش جميلةً خلّابة، بمجرّد صورة ملوّنة أو صوتٍ رقيق، فما أحرى ما أن ترى في الإسلام أضعاف ذلك الجمال إذا اتَّبع نفس الأُسلوب في دعوته.
قد يكون النتاج الأدبيّ(2) الذي قاله حسّان بن ثابت ودعبل الخزاعي والكميت دفاعاً عن شريعة سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله) أدباً إسلامياً ملتزماً، حاولت نشرة الأضواء(3) المجاهدة أن تتّبع نفس أُسلوبه، وأن تنادي إلى الإسلام بنفس طريقته، ولكنّها - وياللأسف- كانت غافلةً أو أنَّها تغافلت عن أنَّ هؤلاء الشعراء إنَّما خاطبوا جماهير زمانهم، وتكلّموا معهم على الطريقة التي يفهمونها، وبالفكرة التي يسيغونها، وكانت هذه القصائد حينئذٍ مؤثّرةً وفعّالة، تحمل شحنةً موجبةً إسلاميّةً قويّة، وتغافلت عن أنَّ عليها أن تخاطب جماهير القرن الرابع عشر الهجري، وتتكلّم على طريقتهم وبالأُسلوب الذي يفهمونه ويلذّون له، كما كانت جماهير القرون الإسلاميّة الأُولى تفهم حسان ودعبل وتلذّ لهما؛ لتنال الأضواء مثل ما نالا من الإعجاب والإصغاء.
فقد أخذ الذهن البشري مساراً آخر، ولبس ثوباً مختلفاً تمام الاختلاف عن تلك الثياب، وقد أصبحت تلك الأشعار كنوزاً، وأصبحت أمثالها المستحدثة ممّا ينبو عنها الذوق وتمجّها الإذن، ولا يرغب الإنسان بالبدء بقرائتها، فضلاً عن أنَّه يستطيع إتمامها والاستفادة منها.
لن يفيدنا مقالٌ جامدٌ صلب، كأنَّه يشرح أعقد النظريّات العلميّة وأدقّها، معتمداً في الدعوة إلى دين الله القويم على تكرار كلمة الإسلام عدداً ربّما فاق العشر مرّات في المقال الواحد، ذاكراً أنَّه يدعو إلى السعادة والفوز في الدنيا والآخرة.
إنَّ الذي تدعو إليه هذه المقالات والكتب صحيح جدّاً، وهو مستمدٌّ من صميم الإسلام ومقتبسٌ من معينه الثرّ، ولكنّه لا يمكن أن ينفذ إلى ذهن الجماهير الذين ألقى الله تعالى هدايتهم بعد أنبيائه وأوصيائه عليهم الصلاة والسلام على هؤلاء المؤلّفين والكتّاب.
فعلى الكاتب الإسلامي اليوم إن كان يريد أن يشبع اندفاعه نحو الدعوة الإسلاميّة، وأن يرضي إخلاصه للإسلام، وأن يبرئ ذمّته من رسالة الإسلام الخالدة، عليه أن ينظر في صميم الحياة في الأوضاع العامّة والأوضاع الخاصّة، أن يجالس مختلف الطبقات ليطّلع على مستواهم الثقافيّ والفكريّ، وليتفهّم مشاكلهم ووجهات نظرهم، وأن ينزل إلى أغوار نفوسهم ليرى محتوياتها وما تزخر به من الآمٍ وآمال، وليشخّص في النهاية الأُسلوبَ الصحيح الذي يمكن أن يصل به صوته إلى قلوبهم ليهزّها ويحييها، ثُمَّ ليجلس بعد ذلك ليكتب أدباً فيّاضاً بالحياة جميلاً رائعاً تعشقه النفس وتلذّ له الأذن، فيكون بهذا قد عالج الواقع الإسلاميّ المتداعي من ناحية، وأوصل صوته إلى الجماهير المسلمة من ناحيةٍ أُخرى، وأنتج نتاجاً أدبيّاً بالمعنى الصحيح من ناحيةٍ ثالثة.
أرجو أن لا يُحمل هذا الكلام على الدعوة إلى سدّ باب البحوث الإسلاميّة الدقيقة والمقالات الفكريّة العميقة؛ فإنَّ كلا النوعين ضرورةٌ إسلاميّة لا محيص عنها في سبيل نشر الدعوة والتنويه بها، ولكنّ المخاطب بكلٍّ من النوعين غير المخاطب بالنوع الآخر، والغلط الفاحش يكمن في نشر المقالات الفكريّة في محلٍّ يقصد به إقناع الجماهير.
إذا وجد المفكّر الإسلاميّ حاجةً ورغبةً لأن يعرض الإسلام بجميع جوانبه وأفكاره على الجمهور المسلم، فلن تنفعه الدعوة عن طريق الأُسلوب التجريديّ الجافّ، بل عليه أن يسكب في إنتاجه روحاً ويجري في دمائه حياةً تجعله ثمرةً يانعة هي أهلٌ للاقتطاف.
وما على الأديب الذي يربأ بنفسه عن الأُسلوب المبتذل، ذلك الأُسلوب الذي يحتاج إلى كتّاب آخرين، إلَّا أنَّ يستجيب لنداء الأدب بجميع مستلزماته ومقوّماته، خيالاً وتصويراً وفكرةً وأُسلوباً، قصّةً كان النتاج أم قصيدةً أم مقالاً اجتماعيّاً أم أدبيّاً، وحتّى إن كان غزلاً أو وصفاً أو مديحاً أو رثاءً - مثلاً- وبعد أن يتمّ له النتاج وتتميّز معالم شخصيّته، يشير إشارةً يسيرةً في غضون كتابته أو قصيدته إلى موضع الإسلام من بحثه، ورأيه في المشكلة التي يعالجها أو الموضوع الذي يتناوله، هذه الإشارة كفيلةٌ بأن تحوّل النتاج إلى نتاجٍ إسلاميٍّ فيّاضٍ بالحياة، محبّبٍ إلى النفوس، ولن يجد الأديب أنَّه قد خسر أيّ شيء، بل إنَّه قد ربح ربحاً أبديّاً خالداً، حيث يأخذ الإسلام بيد أدبه إلى حيث المجد والخلود. وفي الدعوة الإسلاميّة القدرة والقابليّة على احتضان هذا الحقل من حقول المعرفة بين ذراعيها الحنون ضمن ما تحتضن من حقول المعرفة وحقول الحياة، ثُمَّ يكون النتاج عندئذٍ بحثاً إسلاميّاً تسيغه النفس بل تشتاق إليه ويقتنع به العقل، بل يُطلب منه المزيد.
ليس لي - بالطبع- أن أقترح على الأُدباء شيئاً، وما هي حدود تفكيري حتّى أملي عليهم الآراء، كما أنَّه لا ينبغي أن يقيّد الأدب بأيّ قيدٍ يخلّ بفعاليّاته؛ فإنَّه لا ينشط ولا يزدهر إلَّا تحت ظلّ الحريّة، والحريّة المطلقة، ولكنّه اقتراح رأيتُ أنَّه لا يخلّ بطبيعة الأدب الحرّة، كما أنّه من ناحيةٍ أُخرى نداءٌ مخلصٌ لنحصل على أدبٍ إسلاميٍّ مجيد، ولنوصل صوت الإسلام إلى الجماهير المسلمة المتعطّشة إلى معرفة الإسلام، وإلى امتثال أوامر الإسلام. والله وليّ التوفيق.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــ
(1) [تاريخ كتابة البحث] الاثنين: 20/2/1382هـ = 23/7/1962م (منه (قدس)).
(2) في هذا إشارةٌ إلى ما ذكره السيّد بحر العلوم (حفظه الله) تعالى في مقاله. راجع المقال في مجلّة النجف الغرّاء، العدد السابع، السنة الرابعة (منه (قدس)).
(3) وهي: مجلّة (الأضواء) التي تشرف عليها اللّجنة التوجيهيّة لجماعة العلماء، وكان صاحب الامتياز فيها: العلّامة المجاهد الشهيد الشيخ كاظم الحلفي (قدس). وقد صدر العدد الأوّل منها بتاريخ: الجمعة 15/ذي الحجّة/1379 = 10/حزيران/1960.
