








خطاب إلى المستقبل(1)
السلام عليك يا محمّد الصدر ورحمة الله وبركاته.
إليك يا محمّد الصدر أوجّه خطابي هذا، عسى أن ينال قسطاً من رضاك وقسطاً من تفكيرك، وعسى أن يوقظ في نفسك شيئاً من الذكريات الجميلة الباسمة، وشيئاً [من] الآلام الحادّة اللاذعة، وشيئاً آخر من العبرة والعظة.
لست أدري بِمَ أُلقّبك وبِمَ أُثني عليك؛ لأنَّني لا أعلم مقدارك الاجتماعي أو العلمي أو النفسي أو العقلي عند قراءتك لهذه السطور، بل لستُ أعلم أينبغي منّي ذلك لك أم لا ينبغي، كلّ الذي أعلمه أنَّك الآن تقرأ وتجيل النظر في هذه الكتابة المتواضعة التي كتبها شخصٌ أصغر منك سنّاً بقليلٍ أو كثير، ليضفي عليك سمات العالم المجهول والمستقبل المأمول، ليُسمعك كلماتٍ قد تُعدّها غضّاً من قدرك، أو أعلاءً لشأنك، أو وعظاً لك وإرشاداً.
إنَّك حرٌّ يا عزيزي بما تحكم به على هذه السطور، وأنا حرٌّ بدوري فيما أكتب لك من الكلام؛ فإنَّك مهما تكن قد كبرت، ومهما تكن قد عظمت، ومهما وسع تفكيرك وأُفق نفسك، فلستَ أعزّ منّي قدراً، ولا أكبر شأناً فيما بيني وبينك - لا فيما بيننا وبين الناس- فإنَّك من حيث رضيتَ أَم أبيتَ: أنا وأنا أنت، رضيتُ أم سخطتُ، ألستُ حاملاً نفس اسمك، ألستُ بذرةً نميتَ منها، وجسراً عبرتَ عليه، ألستَ تتكلّم بنفس نبرتي وبنفس فكرتي؛ فإنَّني أرى لنفسي حقّاً في أن أتكلّم معك ما أشاء من الكلام، [و]ليس لك حقّ الاختيار فيه، وإنَّك لتشعر الآن أنّك مسلوب الاختيار حقيقةً بالنسبة إليه؛ لأنَّك لا تستطيع أن تصحّح من أغلاطي في هذا الإنشاء، وهذا الإملاء، وإلَّا ارتفعت هذه المعنويّة الجميلة التي تربط حاضرك بماضيك. وأرى من الحقّ لنفسي أن أتكلّم معك كلاماً لم تسمعه من أحدٍ غيري، ولم تعهده من أيّ شخصٍ سواي، ولا يهمّني أن يُرضيك أو يغضبك.
قد يكون من واجبي - يا عزيزي- أن أعتني بإنشائي وأنمّق إملائي ليصل إليك جميلاً منسّقاً، كما أعتني به إذا أردتُ أن أعرضه على أيّ رجلٍ له مثل سنّك ومنزلتك.
ولا أنكرك أنّني سأبذل - وأنّني قد بذلت- بعض الوسع لأعتني بإنشائي وإملائي، ولكن لا لأجلك ولا لأجل أنَّه سوف يقع بين يديك؛ لأنَّك لا تُخجلني ولن تستطيع أن تُخجلني، بل لأجل الآخرين ولاحتمال أن يقع بيد شخصٍ آخر غيرنا يمكن أن نعدّه ثالثاً، ويمكن أن نعدّه ثانياً إن شئت.
تحيّتي إليك يا محمّد، واحترامي وسلامي، مهما تكن منزلتك، ومهما يكن علوّك أو هبوطك. إنَّ كاتب هذه السطور قد مات وقد ذهب به الدهر إلى غير رجعة، وقد جاء بك بدله لتقوم مقامه، ولترث نفسه وعلمه ومتاعه، ولتعمل عمله على هذه الدنيا البسيطة المترامية الأطراف، بل لتعمل أعمالاً لم يكن مستطيعها على أكثر المظنون. وإنَّك لتدرك هذا الآن بصورةٍ جليّةٍ واضحة، ولكن كاتب هذه السطور أيضاً لا زال حيّاً يُرزق، يشمّ الهواء وينظر الضياء، ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويفكّر ويعتبر؛ وليس أدلّ على ذلك منك وأنت لازلت تقرأ هذه السطور؛ لأنَّك نتيجة حياته التي امتلأت بالحوادث أنواعاً، والجميل والقبيح ألواناً، ومن المرّ والحلو طعوماً مختلفة، ولكنّني على كلِّ حال أسعد منك حظّاً؛ لأنَّني أحمل معي عمراً قد خسرته راغماً، وأحتفظ بيني وبين أجلي بسنين قد ذهبتْ منك إلى غير رجعة ولا أوبة، فلا أسف عليها، وتعساً لها من سنين غدّارةٍ خائنة. ولكن تأسّ يا عزيزي بغيرك، واعتبر بمَن حولك، فهذه سنّة الله تعالى في خلقه (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(2).
كم أحببت - يا عزيزي محمّد- أن أتحدّث إليك وأن أسمع منك، لأعرف ما صرت إليه من الكدر أو الصفو، أو من الصحّة أو السقم، أو من الغنى والفقر، أو غير هذه من عوارض الزمان وطوارق الحدثان، لولا أنَّ حجاباً كثيفاً من الزمن يحول بين رؤية أحدنا صاحبه وسماعه منه. ولا أظنّ أنَّك من الشوق مثلي بمكان لتسمع صوتي وترى شخصي كما أشتاق أن أراك وأن أتحدّث إليك، لأنَّك مررت بهذه المراحل التي لا زلتُ أمرّ بها، وأنوءُ بثقلها حتّى سئمتها، ولعلّك لا تتمنّى أن تعود إليها أو تسمع عنها خبراً أو ترى لها شبحاً.
ولا أكذبك - ولستُ مستطيعاً أن أكذبك- أنَّ هذا منوطٌ بالحال التي تمرّ بها الآن، وأرجو مخلصاً أن تكون أحسن حالاً منّي (ومَن أخلص مِن نفسك إليك)، فإن كانت حالك أحسن مِن حالي، فإنَّك لن تتمنّى أن تعود إلى الحال الذي وفّقك الله أن تتخلّص منها ورزقك حياةً أفضل وأجمل، وأمّا إذا كنت أنا أحسن منك حالاً - لا قدّر الله تعالى- فإنَّك لابدَّ أن تنشد هذا البيت من الشعر:
ربّ يومٍ بكيت منه فلمّا *** جاءني غيره بكيتُ عليه
وتضحك منّي لأنَّني كنتُ متبرّماً من حياتي التي تحسب الآن أنَّها كانت سعادةً ونعيماً.
عزيزي محمّد الصدر، لعلّ في سماع صوت الماضي شيئاً من التسلية والأنس، وشيئاً من الضيق والسأم، وشيئاً من العبرة والعظة، وهذه الأُمور هي التي دعتني أن أكتب إليك هذا الخطاب لتتذوّقَ هذه العواطف، ولتمرّ نفسك بهذه الأجواء برهةً قصيرة من الزمن، ولتذكر الماضي وتمعن فيه النظر. وليس أحسن من استذكار الماضي واقتداء حسناته واجتناب سيّئاته.
ولا أخفيك أنَّ عندي سبباً غير هذه الأسباب دعاني للكتابة إليك، إنَّه سببٌ ربّما رجع عليك ببعض العبرة، وهو سببٌ يمسّني أكثر ممّا يمسّك، ويعود عليّ بأكثر مما يعود عليك، وهو التخفيف من هذا الحجاب الزمنيّ الكثيف، ومحاولة خرقه أو إزالته، ولا أقلّ من أن أتصوّر أنَّك ستقرأ كتاباً موجّهاً إليك منّي في زمنٍ قادم.
أُريد أن أنصحك بعدّة نصائح، وأن أملي عليك عدداً من المواعظ الواردة من السلف الصالح، ومن غير الواردة، لعلّك تستضيءُ بها في ظلمة حياتك، وإنّي لأعتقد أنَّك لن تعدو إلَّا أن تكون مثلي سامعاً للنصائح غير منتبهٍ إليها، معتبراً بالمواعظ غير عاملٍ بما تتطلّبه من عمل.
ولكن ماذا يمكنني أن أقول وأنت تعرف هذه المواعظ كلّها أو أكثر منها - إن لم تكن ألهتْك الدنيا بزخرفها وجرفتْك بتيّارها، لا سمح الله تعالى ولا قدّر- وتنظر إليها بشكلٍ أعمق وأدقّ، وستهزأ بي إذ أحاول التطاول على مقامك الذي تحسب أنَّه رفيعٌ وعظيم، وسوف تنظر إلى مستوى نفسي وأنا أكتب هذه السطور حقيراً متواضعاً لعلّك تسأم حتّى من إتمام هذا الخطاب. ولكن يجب عليك أن تستمرّ في قراءته لتقضي مآربي منك ومن إيحاء بعض العواطف - كالعبرة مثلاً- في نفسك، ومن إرغام الدّهر على أن أوصل صوتي إليك، سواءٌ كنت راضياً أم كارهاً. وأستمدّ العون من الله تبارك وتعالى على ذلك؛ فإنَّي أرجو أن يكون لك في هذا الخطاب عبرةٌ لا تعدلها عبرة، وعظةٌ ليس مثلها عظة، لعلّ نفسي - وأنا أكتب هذه السطور- لا يمكن أن تتصوّرها أو أن تصل إلى ذروتها.
عزيزي محمّد الصدر، اعتاد الناس في كتابة الخطابات أن يسألوا أحوال المخاطب وأن يطلبوا منه الجواب، فإمّا يكتب إليهم كما كتبوا وإمّا أن يحضر بنفسه عندهم ليراهم ويروه، ولكن - ويا للأسف الشديد- ليس إلى ذلك من سبيل في مثل هذا الخطاب؛ لأنَّني أدرك أنّك شخصٌ مجهول من قبلي، وأنَّك سوف تحدث في المستقبل، ولا يمكنني أن أسمع لك صوتاً أو أرى لك شخصاً، حتّى أعبر حفنةً من السنين وأخسر جزءاً من العمر. وتدرك أنت الآن أنَّني شخص اضمحلَّ مع اضمحلال الماضي وزال بزواله، فلا أثر له الآن لتتحدّث إليه أو لتراه، ولا يمكنك ذلك بأيّ حالٍ من الأحوال.
وعلى كلِّ حال، فإنَّني أرجو أن تكون في صحّةٍ جيّدة وحياةٍ سعيدةٍ، وخفّةٍ من الذنوب، وقلّةٍ من العيوب، وكثرةٍ من العلم والعمل الصالح لله تعالى، وللمجتمع الإسلامي.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) [تاريخ كتابته] الاثنين: 22/4/1381 = 2/10/1961 (منه (قدس)).
(2) سورة فاطر، الآية: 43.
