








نظرية في السلوك الإنساني(1)
تتوارد على سمعي أثناء مطالعاتي ودراستي عديدٌ من تلك النظريّات التي تسمّى (بنظريّات ذات العامل الواحد)(2)، وهي: النظريّات التي تعزو ظاهرةً معيّنةً من ظواهر الكون، أو تعزو الكون كلّه، إلى عاملٍ واحدٍ فقط.
فمن هذه النظريّات: النظريّة الماركسيّة التي حاولت أن تُخضع الكون بمجموعه إلى تأثير المادّة تحت قيودٍ غليظةٍ من قانون الديالكتيك(3).
ومنها تلك النظريّات العديدة التي تعزو السلوك الإنساني إلى عاملٍ واحدٍ يختلف باختلاف هذه النظريّات، مثل: نظريّة فرويد(4) التي تعزو السلوك الإنساني وما يترتّب على السلوك الإنساني من حضارةٍ ومدنيّةٍ، ومن أخلاقٍ وعاداتٍ وأديان، إلى الجنس، وتعتبر الغريزة الجنسيّة هي العامل الأساسي الوحيد في التحكّم في الشخصيّة الإنسانيّة منذ الولادة وإلى الوفاة.
ومثل تلك النظريّات التي تدّعي بأن السلوك الإنساني مسبّب عن حبّ السيطرة والسطوة أو طلب المال أو الخوف أو السعي نحو الكمال.
ومثل تلك النظريّات التي تعزو السلوك الإنساني والطبيعة البشريّة إلى وجودها في منطقةٍ جغرافيّة معيّنة ذات مناخٍ خاصّ.
فكانت مثل هذه النظريّات تتوارد على ذهني، فأعرف بعضها بشيءٍ من التفصيل، وأعرف الأُخرى بشيءٍ من الغموض والارتباك، وكنتُ أتمنّى أن يكون لي نظريّة ذات عاملٍ واحد تفسّر أيّ ظاهرة من ظواهر الكون، وخاصّة السلوك الإنساني بعاملٍ يختلف عن تلك التي تدّعيها تلك النظريّات.
ولكنّني كنتُ أحاول أن أقنع نفسي بأنَّ هذه النظريّات قد استوعبت كلّ ما يمكن أن يُتصوّر من العوامل التي يمكن أن يُعزى إليها السلوك الإنساني؛ وذلك لأنَّ التشتّت والتبعثر في تفكير البشر قد بلغ ذروته، فلم تبق أيّة وجهة نظرٍ محتملةٍ إلَّا وقد قال بها قائل، وتمشدق بها متمشدق، فمن أين لي أن أخترع سبباً جديداً غير تلك الأسباب، وأُخضع صغريات السلوك البشري عليه بشكلٍ متناسب؟
ولكنّني على كلِّ حال، أودّ أن أتمشدق بنظريّةٍ تشبه تلك النظريّات من حيث الصيغة، وتخالفها من حيث المحتويات.
وطال بي التفكير وطال الانتظار، وتسرّب اليأس إلى قلبي، وكدت أن أنصرف عن مثل هذا التفكير كلّيّاً، ولكن وبعد لأيٍ، وبينما أنا غارقٌ في مختلف تأمّلاتي، انقدح في ذهني خاطرٌ غريب، يصلح لأن يكون مفسّراً للسلوك الإنساني كلّه بمختلف أصنافه ووجهاته، وهو مستجمعٌ للشروط التي كنتُ أطمع أن تحتوي عليها نظريّتي ذات العامل الواحد، فهي بدورها نظريّةٌ ذات عاملٍ واحد، وهي أيضاً مفسّرة للسلوك الإنساني، ويمكن أن تشمله وتتعدّاه إلى الحيوان في بعض أنواع سلوكه. وهي أيضاً يمكن إخضاعها لتفسير جميع صغريات السلوك المختلفة التي تصدر عن الإنسان وعن بعض الحيوان.
وهي بعد كلّ هذا، تعزو السلوك إلى عاملٍ مختلفٍ عن العوامل التي عزت تلك النظريّات السلوك الإنساني إليها.
ومحتوى هذه النظريّة: أنَّ هناك قطبين يتركّز في أحدهما ما نسمّيه بالتعب ويتركّز في الثاني ما نسمّيه بالراحة، وبين هذين القطبين حالاتٌ كثيرة متعدّدة جدّاً، يسمّى القسم الذي يحتوي على نسبةٍ أكبر من التعب: بـ(التعب النسبي) ويسمَّى القسم الذي يحتوي على نسبةٍ أكبر من الراحة: بـ(الراحة النسبيّة).
ويلاحظ أنَّ هذا الاستقطاب مأخوذٌ بمفهومه المطلق، أي: أنَّ كلاً من التعب والراحة يلحظان كنموذجين مثاليّين، كلٌّ منهما يحتوي على صفته الذاتيّة (100% مائة في المائة)، ثُمَّ يبدأ الخطّ في كلٍّ منهما بالتنازل حتّى يلتقيا آخر الأمر في الوسط. ومعنى التنازل هنا هو اختلاط محتوى القطب المعيّن بنسبةٍ من النسب بمحتوى القطب الآخر، والأشياء بطبيعتها موزّعة بين هذين القطبين.
ويلاحظ أنَّ التعب والراحة المطلقتين غير موجودتين على سطح الأرض، فليس هناك عملٌ متعب أو مريح 100% . كما أنَّه ليس هناك شخصٌ متعَب أو مرتاح 100% . بل السلوك الإنساني وشعور النفس بهذا السلوك يختلف فيما بين هذين القطبين، ولا يمكن أن يصل إليهما، وهذا هو معنى كونهما نموذجين مثاليّين.
ثُمَّ إنَّ التعب والراحة بمقتضى فحوى هذه النظريّة، هما الحافزان الأساسيّان الوحيدان للسلوك الإنساني، ولبعض أنواع السلوك الحيواني، فالإنسان بسلوكه على وجه البسيطة إنَّما يهرب من التعب قاصداً الراحة، أو بعبارةٍ أُخرى: إنَّه إنَّما يهرب من التعب النسبيّ إلى الراحة النسبيّة، أي: أنَّه بعبارة ثالثة - قد تكون أكثر دقّةً من سابقتيها-: إنَّ الإنسان يهرب بسلوكه من العمل أو المحيط الذي يشعر فيه بالتعب، إلى العمل أو المحيط الذي يشعر فيه بنسبةٍ من الراحة أكبر. والإنسان بطبعه إنَّما يهرب من التعب المطلق قاصداً بسيره نحو الراحة المطلقة، ولكن هذا التمنّي يصطدم بالأمر الواقع ويقف عند الحدود التي يجب أن يقف عندها، بعد أن ثبت بالوجدان عدم إمكان تحقّق تعبٍ أو راحةٍ مطلقين.
وممّا تجدر ملاحظته: أنَّ التعب والراحة أُخذا في هذه النظريّة بصورةٍ أوسع ممّا أُطلق عليه في مفهومهما اللّغويّ، فالتعب يشمل كلّ المزعجات التي لا تطمئّن إليها النفس، كالخوف والوحشة والتعب - بمفهومه اللّغويّ- والحزن والغضب والجوع والعطش وما إلى ذلك، والراحة خلافه.
وعلى هذا فالإنسان بطبعه يهرب من الخوف، طالباً الأمن، ومن الوحشة طالباً الأنس، ومن التعب طالباً الراحة، ومن الحزن طالباً الفرح، ومن الغضب طالباً الرضا، ومن الجوع والعطش طالباً الشبع والريّ، وهذا شيءٌ طبيعيّ وبديهيّ لا يمكن أن يقوم عليه جدال، غاية الأمر أنَّ بعض الناس يمكنهم أن يقتربوا من الراحة أكثر من البعض الآخر، ويكون ذلك هو مقياس السعادة والشقاء، فكلّما اقترب الإنسان من الراحة، أو بعبارةٍ أدقّ: كلّما زادت نسبة الراحة في حياته، كان أقرب إلى السعادة، وكلّما زادت نسبة التعب في حياته، كان أقرب إلى الشقاء.
وممّا ينبغي أن يلاحظ أيضاً: أنَّ هناك مفاهيم للراحة والتعب اتّفق الناس على أنَّها كذلك، كالأمثلة التي سردناها قبل قليل، وهناك مفاهيم معيّنةٌ يراها بعض الناس راحةً أو مقدّمةً لراحة، ويراها الآخرون تعباً أو مقدّمة لتعب، وذلك كشرب الخمر الذي يعدّه جماعةٌ من الناس راحةً وملذّة، ويعدّه آخرون أنَّه وإن كان سبباً للّذّة الوقتية ولكنّه سبب للعذاب الغليظ الذي لا يمكن أن تقوم أمامه أيّة لذةٍ في هذا العالم.
والضابط في الراحة والتعب: شعور النفس بالعوامل التي تحيط بها، وإلَّا فالعوامل الطبيعية نفسها لا يمكن أن توصف بالراحة والتعب، إلَّا من حيث ما تبعث في النفس من هذين العنصرين، وإلَّا بقدر ما يمكن أن تحفّز من السلوك الإنساني للهرب من التعب إلى الراحة.
وعلى هذا فقد يكون في بعض الأُمور المتعبة راحةٌ للضمير أو إشباعٌ للغريزة أو سدٌّ للحاجة أو بلاغُ النفس وطموحها، وذلك مثل السعي وراء نيل العلم أو المنزلة الاجتماعيّة الرفيعة، أو الحصول على المال الكثير، أو أن يوقع الإنسان على نفسه عقاباً على ذنبٍ ارتكبه من جرّاء ما عاناه من تأنيب الضمير. وقد يكون في بعض الأُمور المريحة تعبٌ وعذاب، مثل بعض المحرّمات الإسلامية الموافقة للّذّة النفس وشهوتها.
فعلى هذا قد نرى الإنسان أنَّه يهرب من الراحة إلى التعب في بادئ الرأي، ولكن إذا نظرنا مليّاً وجدنا أنَّ هذه الراحة التي هرب منها هي سببٌ لتعبٍ أشدّ من التعب الذي قصده، مثال ذلك: أنَّ الذي ينتحر، نحسبه أنَّه فضّل التعب على الراحة، ولكنّنا إذا أمعنا النظر وجدنا الراحة التي كان فيها - وهي الحياة- سبباً لمتاعب نفسيّة هي أشدّ عليه من الموت الذي ينتظره عند الانتحار، أو وجدنا أنَّ هذا التعب الذي قصده سببٌ لراحةٍ تكون ربحاً لما خسره من الطاقة عند التعب.
فمن كلّ ما سبق، يمكنك أن تعرف: أنَّ السلوك الإنساني إنَّما هو هربٌ من التعب إلى الراحة، أو مقدّمةٌ لذلك أو نتيجةٌ منه. ولا يمكن أن نفصل المقدّمة والنتيجة عن أصل المسألة؛ لمدى قوّة الارتباط بين العلّة والمعلول، والسبب والنتيجة. وقد تحتوي بعض المقدّمات على تعب، ولكن هذا التعب مرضيٌّ عند الإنسان مادام يؤدّي إلى راحةٍ تلذّ لها النفس ويأنس بها الفؤاد، وقد تحتوي بعض النتائج على راحةٍ أو على نسبةٍ كبيرةٍ من الراحة، ولكن الإنسان لا يمكن أن يستقرّ عندها؛ لأنَّ طموح النفس لا يمكن أن يكون له غايةٌ لولا هذه الظروف المحيطة به، فهذه الراحة التي حصل عليها إنَّما هي بمنطقه الخاصّ، خطوةٌ إلى الأمام نحو الراحة المطلقة التي يتخيّلها ويجعلها هدفاً له، في حين إنَّه لا يمكن أن يصل إليها يوماً من الأيّام.
وإذا كان السلوك الإنساني طلباً للراحة وهرباً من التعب، فكلّ ما ينتج عن السلوك الإنساني من عاداتٍ اجتماعيّة، وأفكارٍ وعلومٍ وحضارةٍ ومخترعات، وحتّى نوعيّة الأكل واللباس وطريقة النوم والجلوس والتحدّث، إنَّما هو خاضعٌ لهذه القاعدة العامّة من كونه إمّا تخلّصاً من التعب أو مقدّمةً له أو نتيجةً منه.
وممّا سبق يتّضح: أنَّ هذه النظريّة يمكن أن تشمل السلوكَ الحيوانيَّ الاختياريّ، وهو العمل الذي يقوم به الحيوان عن إرادةٍ وعن اختيارٍ والتفاتٍ إلى ما يعمله، وعلى هذا فالحيوان إنَّما يتّجه بعمله الاختياريّ نحو نسبةٍ أكبر من الراحة التي تلائم نفسه هارباً من التعب الذي يزعجه، وإنَّما قيّدنا العمل بالاختياريّ؛ لأنَّ الأعمال التي تصدر عن الإنسان والحيوان بصورةٍ جبريّةٍ لا اختياريّة، لا يمكن أن تدخل ضمن نطاق هذه النظريّة إلَّا إذا كانت متّصلةً بالأعمال الاختياريّة، كسببٍ أو كنتيجة.
أمّا الأفعال المنعكسة التي استجابت لمؤثّرها الطبيعيّ بدون إرادةٍ وشعور، فلا تدخل في نطاق هذه النظريّة، غاية الأمر أنَّ هذه الأفعال هي الغالبة على سلوك الحيوان، في حين إنَّ الغالب على سلوك الإنسان هي الأفعال الصادرة عن شعورٍ وإرادةٍ واختيار.
ومن هذا يتبيّن أنَّني قد أصبحتُ بعد وضع هذه النظريّة من العلماء الأفذاذ! الذين يشار إليهم بالبنان!! بعد أن زوّدوا البشريّة بنظريّاتهم ذات العامل الواحد، فمرحى مرحى؟!!
والحمد لله ربِّ العالمين الرحمن الرحيم.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) [تاريخ كتابة البحث] 3/6/1381 = 12/11/1961(منه (قدس)).
(2) راجع حول ذلك اقتصادنا: 55، وما بعدها نظريّة المادّيّة التاريخيّة، نظريات العامل الواحد.
(3) راجع حول ذلك اقتصادنا: 67، وما بعدها، في ضوء قوانين الديالكتيك، وموسوعة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) للمؤلّف) 4: 27، وما بعدها، القسم الثاني: المستقبل السعيد للبشريّة في الفكر الماركسيّ.
(4) راجع الأنا والهو (لسيجموند فرويد): 25-65، الفصل الأوّل: الشعور واللا الشعور والفصل الثاني: الأنا والهو، والفصل الثالث: الأنا والأنا الأعلى.
