








واقعنا في ضوء ثورة الحسين(1)
رغم ما يمكن أن نقرأه على سطح الماء، من أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد انهزم في حربه المقدّسة مع يزيد بن معاوية، وأنَّه قد أُبيد هو وأصحابه عن آخرهم تقريباً، وهي نسبة تفوق هزيمة أيّ جيشٍ في العالم، ومن أنَّ بني أُميّة هم الذين كسبوا القتال ورجعوا رجوع الظافرين، رغم كلّ ذلك بجميع ما يكتنفه من ملابسات، وما تحيطه من تفاصيل، فإنَّنا إذا تعمّقنا في النظر نجد الحسين (عليه السلام) هو الذي انتصر انتصاراً باهراً عظيماً، وأنَّ يزيد هو الذي باء بالفشل والهزيمة والخذلان.
إنَّ تلك الأجسام المرمّلة الملقاة على أرض المعركة في معسكر الحسين (عليه السلام)، كانت هي النتاج الأوّل للثورة الكبرى الشاملة، التي بدأها نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) وكانت هي قمّة الصراع بين الحقّ والباطل، واللولب الرئيسيّ في تقرير مصيره، وكانت هي المعركة الفاصلة بين الحقّ والباطل والظلم والعدل.
فإنَّ الحسين (عليه السلام) - وهو ذلك العنصر الطاهر الذي تربّى في أحضان النبوّة وترعرع بين يدي القرآن- لم يكن يستطيع أن يرى حُرمات الإسلام تنتهك، ودين جدّه القويم لا يُطبّق، ومحرّماته ترتكب جهاراً، ووالده أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين يُشتم على المنابر بأفواه شرار خلق الله(2)، كان يرى أنَّ ذلك حتماً - لو أُبقي على ما هو عليه من الاستشراء والسريان- سوف يؤدّي بالإسلام إلى الاضمحلال في وقتٍ قصير، إن لم تتداركه قوى الحقّ بشكلٍ قويّ وصلب وسريع، لإقامة المعوجّ وإرساء العدل. ومن ثَمَّ كانت نفس الحسين (عليه السلام) رخيصةً لديه حينما بذلها في أرض كربلاء في سبيل الإبقاء على شريعة جدّه الأعظم سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله).
لقد كانت ثورة الحسين ومبادئ ثورة الحسين هي القاصم الأعظم لا لبني أُميّة ونواياهم الكافرة فحسب، وإنَّما لأيّ شكلٍ من أشكال الظلم في العالم، وفي أيّ جيلٍ من الأجيال، وأيّ مجتمعٍ من المجتمعات؛ فإنَّ الناس بمجرّد مقتل الحسين قد عرفوا ولا زالوا عارفين، مَن هو يزيد ومن هم بنو أُميّة، وبأيّ حقٍّ شرعيّ استُلبت الخلافة ممّن أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. وعرفوا على وجه التحديد والدقّة، موقف يزيد لا من الحسين وأصحاب الحسين فحسب، بل من الإسلام ومن نبيّ الإسلام، وكيف أنَّه بحربه للحسين (عليه السلام) يريد القضاء على النور الإلهيّ الذي يهدي به الله مَن شاء إلى سبل السلام.
كما أنَّ الناس قد عرفوا إلى جانب ذلك، ولا زالوا عارفين، ما هو الظلم، وكيف ينبغي أن يُوقف أمامه، وأيّ شيءٍ ينبغي أن يُبذل في سبيل إيقافه عند حدّه وفي سبيل إماتة البدعة وإحياء السنّة. كما أنَّهم عرفوا ما هو الحقّ وكيف ينبغي أن يُذبّ عنه إذا اجتاحته الرياح وزحف إليه الظلم بجيوشه الجرّارة وجحافله الفاتكة، وكيف ينبغي أن يُستجاب لنداء الحقّ إذا نادى، وكيف ينبغي أن يُساعد وأن يُذبّ عنه إذا احتاج إلى المساعدة والذبّ، فإنَّه لم يكن هناك أكثر قيمةً وأهمّيّةً من تلك الجماعة التي ذهبت إلى الموت في كربلاء، فقد كانت أثمن من كلِّ ما في الوجود عند الناس وعند الله تعالى، ولكن رغم ذلك فإنَّها ذهبت وقاتلت حتّى قُتلت عن آخرها، فقد ولجوا الحرب راغبين في سبيل رضاء الله عزّ وجلّ ونصرة دينه القويم، الذي أنزله إلى البشريّة ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
وقد عرف الناس أيضاً، ولا زالوا عارفين، النتائج الكبرى والآثار العظيمة التي تمخّضت عنها ثورة الحسين (عليه السلام)، تلك النتائج والآثار التي جاءت في ذهن الحسين ساعةً من زمان وكان لا يزال في مأمنه وبلده وبين أصحابه وأهل بيته، والتي من أجلها عرَّض نفسه للخطر، ومن أجلها استشهد هو وأصحابه، ألا وهي نصرة الحقّ والدفاع عن العدل الإلهي؛ لكي يُحفظ الإسلام من الاندثار على يدي شرار خلق الله، ولكي يجعل مقتله قدوةً حسنةً للمقتدين، حتّى يعرف الناس كم ينبغي أن يُبذل في سبيل الحقّ، وكيف يجب أن يجاهد في سبيله، حتى إذا ما اجتاحت جيلاً من الأجيال ظروفٌ كالظروف التي عاشها الحسين، وصادفت ظلماً كالذي صادفه، هبّت مثله هبّةً واحدةً غير متشكّكة ولا هيّابَة، جاعلةً ثورة الحسين نصب عينيها كمثلٍ أعلى؛ ليكون لها الأُسوة الحسنة بالحسين وبأصحابه في سبيل الدفاع عن الإسلام وإجابة داعي الله إذا دعا.
هذا هو شأن الحسين، وهذا هو المغزى العميق لثورته الكبرى، والسرّ الكبير لانتفاضته الجبّارة التي زعزعت صروح الظلم والفساد، والتي ظلّ صوتها الهادر يجلجل على مدى القرون هادياً ومنذراً، ينشر الإيمان في نفوس المؤمنين، والرعب في قلوب الكافرين.
ولكن ما شأننا نحن في هذا الزمان، وفي كلّ زمان؟
لقد طُلب البكاء على الحسين (عليه السلام) وعلى أصحابه وتجديد ذكراهم في كلِّ عام، وذرف الدموع عند تصوّر ذلك المنظر الهائل المروّع الذي جرت أحداثه في أرض كربلاء يوم عاشوراء.
إنَّ وراء هذا الأمر بالبكاء وتجديد الذكرى أسراراً كباراً ومغازي عظمى؛ فإنَّ الذكرى إذا لم تجدّد وإذا لم يتعهّدها المخلصون بالسقي والرعاية وإذكاء الأوامر، فإنَّها سوف تبلى وتضمر وتذهب حيويّتها من النفوس، في حين لابدَّ لثورةٍ كثورة الحسين الكبرى أن تبقى حيّةً في داخل كلّ نفس مؤمنة، متيقّظةً في كلِّ ضمير، تُؤثّر أثرها وتنشر نورها وتزرع ثمارها ومبادئها في ربوع النفس؛ ليكون كلّ مُؤمنٍ ومؤمنةٍ في كلِّ عامٍ وكأنَّه يعيش مع الحسين وأصحاب الحسين في يوم مقتلهم، يحسّ بإحساسهم، ويشعر بشعورهم، ويقتبس من موقفهم ذلك، الموعظةَ البالغَة والرشاد.
وبذلك يُضمن بقاء ثورة الحسين خالدة المغزى، حيّة المعنى على مدى الأجيال في قلوب المؤمنين، لا تستطيع أن تذهب بجدّته الأيّام، ولا أن يبليها الزمان، ليبقى المسلمون على ذكرٍ من المغزى الأعظم الذي ثار لأجله (عليه السلام) ولأجله ضحّى وجاهد، ليكون القدوة الحسنة لكلِّ جيلٍ من الأجيال، في سبيل دفاع تلك الأجيال عن دينها وجهادها في سبيل ربّها، ومناضلتها لقوى الكفر والطغيان، وليمدّها بالإيمان والمعنويّة العالية والاندفاع الحماسيّ الفيّاض في سبيل عملهم المقدّس الجبّار، ذلك الاندفاع الحماسي الذي لابدَّ منه في كلِّ عملٍ كبير، لينتج ثمراته المطلوبة.
هذا هو السرّ الكبير الذي ثار لأجله الحسين (عليه السلام)، وهذا هو المغزى العميق الذي أُمرنا لأجله بالبكاء على الحسين وتجديد ذكراه في كلِّ عام. ولكن وياللأسف الشديد، وبطريقٍ قهريٍّ لا شعوريّ، قد نسينا هذا المغزى العظيم، وحوّلنا ذلك السرّ الكبير عن طريقه اللاحب الذي رسمه الحسين (عليه السلام) في ثورته الكبرى، فلم يعد لتجديد هذه الذكرى في أذهاننا صورة العمل الجدّي الكبير في سبيل الحقّ، والجهاد في سبيل القضاء على قوى الجور والفساد، فقد ذهب عنّا السرّ العظيم لثورة الحسين والأهداف الكبرى التي جاهد في سبيلها الحسين، وذلك لضعف صورتها في أذهاننا وتشويهها في نفوسنا، وصرفها عن طريقها الواضح الصحيح.
إنَّنا لم نعد نبكي على الحسين (عليه السلام)؛ لأنَّنا لا نتمثّل في بكائنا الأهداف السامية التي رسمها الحسين، والتي جاهد من أجلها وضحّى بنفسه وأصحابه في سبيلها، وإنَّما أصبحنا نبكي على أنفسنا من أجل ثقل الظلم الذي نحسّ أنَّه واقعٌ علينا. فقد أصبح البكاء على الحسين مغزىً من مغازي التمرّد الأعمى على الظلم المستحكم الذي لا يمكن إزالته ولا السيطرة عليه، والتخبّط الأعشى في بحرٍ لا يهتدى فيه من سبيل؛ فإنَّ الحزن والبكاء في اصطلاح علماء النفس هو عاطفة الغضب مشوبةً بالإحساس بالضعف، أي: أن الحزن هو الغضب من شخصٍ لا يستطاع دفعه أو الانتقام منه إلَّا بالدموع، وكذلك أصبح البكاء على الحسين لا يحمل إلَّا هذا المغزى الساذج البسيط الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ونحن أمام الحاجة الملحّة إلى العمل الإسلاميّ الجبّار، كذلك صرنا نفهم البكاء ونفهم المآتم والمنابر الحسينيّة، وفي سبيل ذلك نصرف الأموال. وآية هذا الفهم أنَّه كلّما زاد إحساسنا بالظلم في وقتٍ من الأوقات، زاد صراخنا وعويلنا وبكاؤنا على الحسين، وتذكّرنا لوقعة الحسين في أرض كربلاء.
ولكن ليتنا كنّا نعلم أو نلتفت، أنَّ الحسين (عليه الصلاة والسلام) عندما أحسّ بالظلم لم يبكِ ولم يتفجّع ولم يكتفِ بمجرّد ذرف الدموع، وإنَّما أسلم نفسه وخيرة أصحابه للموت في سبيل دفع الظلم والدفاع عن الحقّ. وليتنا كنّا نعلم أنَّ الحسين عندما ثار وعندما واجه الظلم بسيفه، لم يكن يريد منّا بأيّ حالٍ من الأحوال أن نستكين وأن نستخذي(3)، مكتفين بالتكرار تلو التكرار لفاجعته الأليمة في كربلاء، وإنَّما عمل ذلك العمل الجبّار ليكون قدوةً حسنةً تقتدي بها الأجيال، وتستنير بها النفوس المؤمنة، وتستمدّ منها قوّة الإيمان والعزيمة والإقدام، وليتنا كنّا نعلم أنَّنا لم نُؤمر بالبكاء لمجرّد تجديد الذكرى، ولأنَّ البكاء غايةٌ نبيلةٌ في نفسه، فإنَّه وإن كان في ذلك فائدة من حيث كونه شعاراً إسلاميّاً، ولكنّ الشعار يصبح حبراً على ورق وجسداً ميّتاً بلا روح، إذا تجرّد عن مغزاه العظيم، وأهدافه السامية، وإذا لم يكن لدى أصحابها شيءٌ آخر غير الدموع.
ولقد أثّر فينا هذا الفهم الخاطئ لمغزى ثورة الحسين (عليه السلام)، هذا الفهم الذي استشرى فينا منذ السنوات الأُولى لثورة شهيد كربلاء (عليه السلام)، لكثيرٍ من العوامل النفسيّة والاجتماعيّة التي اقتضته، لقد أثّر فينا آثاراً بليغة جرّتنا إلى ظروفٍ من الظلم والطغيان قد تفوق ظروف الظلم الذي ثار عليه الحسين (عليه السلام). فقد أصبح الفرد منّا من جرّاء نسيانه لمغزى ثورة الحسين الحقيقيّ العميق، لا يشعر أنَّ عليه واجباً إسلاميّاً مقدّساً، هو أن يقف في الخطّ الأمامي في الدفاع عنه، وأنَّ لديه ديناً إلهيّاً هو في أمسّ الحاجة إلى المساعدة والعون وإلى نصرته والدفاع عنه.
ومن ثَمَّ فقد أصبح الدين في نظر أمْثَلِنَا طريقة، آخر ما ينبغي أن يفكّر فيه المرء، وأصبحت تعاليم الدين وواجباته ومحرّماته في أسفل قوائم الواجبات والمحرّمات الدنيويّة والاجتماعيّة التي لا تستند إلى ركنٍ وثيق، ونتيجةً لذلك أصبحنا في فراغٍ عقائديٍّ مروّع، ينذر بشرٍّ مستطير، وفي خواءٍ ذهنيٍّ متناهٍ، ينذر بالتسافل إلى الحضيض. فقد أصبح الفرد منّا لا يعرف كيف يفكّر، وإلى أين يتّجه، بعد أن نُسيت المثُل العليا، وضاعت المقاييس، واختفت تعاليم الإسلام وشريعة القرآن عن مسرح الوجود.
وكنتيجةٍ طبيعيّة لذلك، كان أن وفدت الأفكار تغزونا في عقر ديارنا وفي باطن أفكارنا، ممّا جعل الناس يتعصّبون إلى أُمور أُخرى غير الدين، يتحيّزون لها ويكافحون في سبيلها، وليس ثمّة شخصٌ نراه يكافح للدين وينطق باسم شريعة سيّد المرسلين. وكانت النتيجة الحتميّة الطبيعيّة أن صار الدّين - الذي دافع عنه الحسين (عليه السلام) وبذل في سبيله الغالي والرخيص- على شرف الانهيار ومعرّضاً للضياع والنسيان، تماماً كما كان قبيل ثورة الحسين، بل لعلّه أشدّ وأدهى.
ولكنّ الفرق بيننا وبين الحسين (عليه السلام): أنَّه بمجرّد أن أحسّ بالخطر، استجاب لداعي الله، وهبّ لنصرة دينه القويم، ليضع بين يدي الدهر تلك الأمثولة الحيّة الخالدة؛ لتنير للمؤمنين طريق الهدى، ولتهديهم إلى الصراط المستقيم، في حين إنَّنا في خوائنا الذهني وفراغنا العقائدي، وضعفنا المادّي والمعنويّ، ومركب الخوف المجبول في نفوسنا، تخاذلنا وتوكّلنا وتنصّل كلّ فردٍ منّا عن القيام بواجبه، وعن مواجهة التيّار الإلحاديّ الجارف، ممّا جعل الطريق مهيعاً أمام ذلك السيل، ليكسح من قدّامه الأخضر واليابس، ليضمّه إلى تيّاره، ولينشر سلطانه على الأرض بدون عوائق أو سدود.
إنَّ الحسين (عليه السلام) عندما شعر بالظلم، أحسّ بالمسؤوليّة، فأحسن أداءها على أكمل وجه، وأحسّ أصحابه بالواجب، وأحسنوا بالقيام به على خير ما يرام، فإنَّه لم يكن من العبث، بل كان من الحكمة البالغة والتدبير الإلهيّ الحكيم، أن يشاء الله تعالى أن يرى الحسين وأصحابه صرعى في ميدان الجهاد، وأن يرى نساءَهم سبايا على أقتاب الإبل، فإنَّهم بدون ذلك لن يستطيعوا أن يؤدّوا ذلك الواجب وأن يقوموا بتلك المسؤوليّة الدينيّة التاريخيّة العظيمة الملقاة على عاتقهم؛ وذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله) للحسين (عليه السلام): (إنَّ لك عند الله درجاتٍ لا تنالها إلَّا بالشهادة)(4)، فبذلك أحرزوا النصر الباهر، وخلّدوا أثراً لا يمكن للدهور أن تمحوه، ولا للأيّام أن تذهب بجدّته وحيويّته.
فهلا نشعر بالمسؤوليّة كما شعر الحسين أمام ظلمٍ أشدّ من الظلم الذي جابهه الحسين، وهلّا نعمل عملاً جبّاراً حاسماً كالعمل العظيم الذي قام به الحسين، يحمل نفس الأهداف والمثل العليا التي جاهد من أجلها الحسين، لنحرز نصراً كنصر الحسين (عليه السلام).
الهوامش
ـــــــــــــــــــــ
(1) [تاريخ كتابة البحث] 3/1/1383 = 27/5/1963 (منه (قدس سره)).
(2) راجع الغارات (للثقفي الكوفي) 2: 843، ومناقب آل أبي طالب (لابن سليمان الكوفي) 2: 548، وأُسد الغابة (لابن أبي الأثير) 1: 91.
(3) أي: نخضع ونتذلّل. راجع الصحاح (للجوهري) 1: 46، فصل الخاء.
(4) الأمالي (للشيخ الصدوق): 217، مقتل الحسين (عليه السلام)، وبحار الأنوار 44: 313، في كتاب عتبة إلى يزيد وكتابه في أمر الحسين (عليه السلام).
